لیلة عاشوراء في هذا العام (1423 هـ) خرجت قاصداً المساهمة في مواکب العزاء الحسیني ، فالتقیت بالأخ العلامة السید هاشم الهاشمي نجل العلامة الحجة الشاعر المفلِق السید محمد جمال الهاشمي رحمه الله إذ مرّ موکب رجال الدین، في هدوء وهیبة، لکنّهم صامتون فتذکرت أیام شبابنا في کربلاء المقدسة ، حیث کان موکب علماء الدین یتقدمه السادة الأشراف منهم و یتلوهم المشایخ یردّدون أشجی الأبیات و أعمقها تأثیراً و أبلغها معاني و أفصحها أدباً.

فذکر السید هاشم الهاشمي أن والده الشاعر الشهیر نظم بيتين لذلك الموکب الرهیب الجلیل هما:

لیلةَ العاشر لا لاحَ الصَباح        فَحِمَی زینبَ لَو لَاحَ یُباح

هذه أجسامُهم فوق الثرى   ورُؤوسٌ عالیاً فوقَ الرِماح

 

هذا ما کان لي في لیلة عاشوراء.

وخرجت صباح تلك اللیلة لأسهمَ کذلك في العزاء في طریقي إلی الحرم الفاطمي المقدّس، فوافقت موکباً أنقل ما حصل لي فیه في هذه السطور:

لعاشوراء ـ فی کلّ عام هجري وفي حیاة کلّ شیعي ـ مظهرٌ خاصّ متمیّز، يبدو علیه أین ما حلّ في أقطار الأرض، وفي أي عمر کان؟ أو بأیة ثقافة تثقف؟ أو بأي عمل ، أو وظیفة ، أو مسؤولیة ومقام ارتبط؟ لأن ذکرى الحسین علیه السلام هو جزء من کیان الشیعة ، منذ الولادة، بل قبلها، فلابُدَ أن یسمعَ عنه شیئاً وهو جنین، ثم رضیع، ثم ينمو علیه وینشأ، یسمع عنه القصص، ویری الجموع و المواکب وهي مزیجة بالألم والحزن والمصیبة، والمجالس وهي تستدرّ الدموع، والمسیرات ومعها الشموع، مناظر لا تغیب عن أنظار الأطفال يشيب علیها الکبار، و تستقرّ في القلوب والأفکار.

مناظر وظواهر يمتزج فیها الواقع بالخیال، وکلّما اتّسعت معارف الناظر؛ یقف علی قضیة الحسین علیه السلام بصورٍ فریدة في فجیعتها وکلّما تعرّف علی جهاتها: زمانها ومکانها وظروفها الأخری، وکذلك علی عناصرها وشخصیاتها مظلومین، وحتی ظالمین، وعلی مجریاتها و حوادثها کمّاً وکیفاً؛ أحسّ بعمق الأسی إلی عظمة الأهداف، وقدسیتها، وضخامة النتائج وأهمیّتها.

 وأنا کشیعيّ، عشتُ في بیئة دینیّة، ترتبط بالحسین عضویاً ـ نسبیّاً ـ أمّا وأبا، وعقیدیاً ، وعلمیّاً ، وقطریاً وطنیّاً، حیث ولدتُ في کربلاء، ونشأت في جوار الحسین علیه السلام وفي بیتٍ لا یبعد عن مرقده الشریف سوی أمتار، ومولدی هناك حیث هو مولد أمي وأبیها.

نشأت مرتبطاً بالحسین وقضیّته، وکانت من أولی اهتمامي العلمیة هي قضیّته، فأوّلُ کتاب ألفته، وأجریت قلمي فیه، کان هو «حول نهضة الحسین علیه السلام» بحثت فيه عن أسبابها ونتائجها ، ولا زلت مساهماً بشکل أو بآخر في إحیاء ذکرها علی طول الأعوام، وفي عاشوراء کل عام، حیث یتجدّد مع تجدُّدها ـ في أعمالي عمل جدید، من قراءة و تحقیق، أو کتابة وتألیف، أو شعر ونشید، أو تکمیل و تأکید، أو أيّ جهد مفید.

وقد حفقت عام (1405 هـ) کتاب «تسمیة من قتل مع الحسین علیه السلام» للراوي الأقدم الفضیل بن الزبیر الرسان (ق 2).

وفي عام  1416 ألفت کتاب «الحسین سماته وسیرته».

وساهمت في مراجعة «موسوعة الإمام الحسین علیه السلام» التي تنشر في طهران. وفي نهار اللیلة الماضیة (من عاشوراء 1423 هـ).

أفقتُ علی أصوات الطبول والأبواق ومکبّرات الصوت الصاخبة التي یعجّ بها أفق البلد، والناسُ یؤدّون واجب عواطفهم تجاه قضیة الإمام الحسین علیه السلام، کلٌّ بأسلوبه، وبإمکاناته، وقدراته.

خرجت کالعادة في کلّ عام، متجّها ابتداءً إلی الحرم الفاطمي الشریف لأحظی بزیارة السیدة فاطمة المعصومة بنت الإمام الکاظم علیه السلام التي أعتزّ بجوارها وأتشرف بذلك منذ الهجرة الأخیرة إلی إیران الثورة، في عام (1400 هـ ) ولأعزّیها بالذکری الحسینیة المؤلمة وأتلو في حضرتها زیارة الحسین علیه السلام یوم عاشوراء، ولأؤدّي الصلاة الکبری مع ملایین المصلین المقیمین لها ظهر هذا الیوم تأسیاً بالإمام الحسین علیه السلام حیث أقامها مع أصحابه في ساحة الشهادة في کربلاء.

وکالعادة، وبعد إتمام ما لزم من الأعمال، التحقّ بالموکب الجماهیري الکبیر الذي یَقیمه العرب في قم باسم «عزاء طویریج» وهو تمثیل للعزاء المهیب الذي یقیمه العراقیون في کربلاء في ظهر عاشوراء کلّ عام، یشترك فیه الملایین، مهرولین یمثلون فریق النجدة التي قصدت کربلاء لیعینوا الإمام علیه السلام لکنهم یَصِلون إلی أرض الواقعة بعد وقوعها وانتهائها ، وحین یجدون المخیّم الحسیني قد شبّت فیها النیران.

في تمثیل مهیّج للأحزان، تمتزج فیها الدموع بالدخان، والنجدة بالخیبة، والأسف بالحسرة، لکن تستتبع الأمل بالولاء، وتمزج الجهد والجدّ بالعزم، وتجدّد الإخلاص في النفس، والرجاء بتحقق الأماني للحوق بالرکب الحسیني الظافر في الدنیا والآخرة.

وبعد المشارکة الرمزیة في هذا الموکب الخالص من الأطر الضیقة الجبهویة والموکبیة والحزبیة وحتی الانتماءات الشخصیة والمحلیّة ولا یدّعیها مدّعٍٍ، ولا تتمّ باسم أحد وعنوانه، ففیها من الخلوص والإخلاص شيء مشهود.

فقفلتُ ذلك الیوم راجعاً من الحرم الشریف والعزاء، ملیئاً بالعَبرة والعبرة، وبالرُوح والرَوح، حامداً لله علی هذا التوفیق، الذي أؤمل أن یکون ثابتاً في دیوان صالحاتي، خالصاً لا يشوبه عجبٌ ولا ریاءٌ ولا سمعة، ولا تصحبه معصیة ولا تهمة، ولا سوء نیّة، وکنت ـ وأنا أحس بتعب وإرهاق ـ منبهراً بمظاهر العزاء العامة، والمواکب التي تتری متوالیة، لأصناف الناس، بمختلف اللغات، تصحبهم أدواتهم من أعلام وأدوات عزاء وولاء، فإذا بي أجد نفسي وسط موکبٍ ضخمٍٍ، لجماعة من الهنود، ومن أهل کشمیر، یحملون لافتة مرقوم علیها بلغتهم ما لا أعرفه، ومعهم علمٌ واحدٌ فقط، مما یدلّ علی بساطة أدواتهم، وسمعتهم یهمسون بصوت خافت، ویتلون ما لا أفهمه، لأنه باللغة الهندیة .

وبینا أنا بین التأمّل والدهشة، فإذا بالنداء یأتي من المذیاع البعید في نهایة الموکب، یردّد نفس العبارة التي یتلوها الأفراد، فحفظت من الکلمات : «بازارجي مي ... بهائي».

لم أفهم ـ کما قلت معنى الکلمات ـ إلا أن الموقف، والهمسات، واللحن، حرکت في نفسي إحساساً غریباً، وحزناً عمیقاً، فدمعت عیني بلا اختیار منّي، وصرتُ أتلفتُ ـ يمنةً ویسرةً ـ أبحث عمّن یفسّر لي تلك الکلمات، وإذا بشاب إلی جنبي کأنه ینظر إليَّ، وکأنّه ینتظرني أن أحدثه، فتوجهت إلیه، وسلّمتُ وعزیته، وقلت: أخي، هل یمكنك أن تفسّر لي هذا الذي یتلونه؟ فقال: نعم، إنّهم یعبّرون عن لسان العقیلة السیّدة زینب، أخت الحسین علیه السلام فهي تخاطب رأس أخیها الحسین، محمولاً علی رأس الرمح وقد بدأ یقرأ القرآن الکریم، فتقول له:

في السوق اقرأ القرآن عالیاً ، یا أخي

کي یعرفوا أننا مسلمون نعرف القرآن

فاقشعرّ جلدي، من سماع هذا الکلام! أن تطلب السیّدة زینب ابنة علي بن أبي طالب، وابنة فاطمة الزهراء، وحفیدة صاحب الرسالة محمد رسول الله صلی الله علیهم اجمعین.

تطلب زینب من أخیها: أن یقرأ من رأسه المذبوح، المرفوع علی الرمح بید أعدائه، أن یقرأ القرآن بصوت عالٍ مرتفع، کي یعرف الناس ـ المذّعون للإسلام ـ أن الأسری ـ زینب وأخواتها وأولاد الحسین وأبناء أهل البیت النبويّ ـ أنهم مسلمون! یعرفون القرآن ویتلونه، وهم من أهل القرآن.

أوّاه، ما أوجع ذلك علی قلب کلّ مسلمٍٍ، أن یصبح أهل بیت الرسول و قرناء القرآن في حدیث الثقلین، ومن نزل القرآن في منازلهم، یصبحوا متّهمین، بین من  یدّعي الانتماء إلی الإسلام. انّها الظلیمة حقّ الظلیمة!

ومن هنا ينکشف سرّ وجود تلك المعجزة العظیمة معجزة تکلّم رأس الحسین المذبوح من فوق الرأس المرفوع.

وقد أوقع في رُوعي نظم ذلك المعنى، فقلت:

 

إقرأ القرآن في الســوق أخـي         عالياً کـي یـعـرفــونا مُسلمــین

إقرأ القرآن حــتــــی یــعــلموا         لا یقولوا خــارجيّ یا حســین

مــعـلناً من شاهق الرمح وقل         إننــا أصــحــاب إيمــان وديــــن

اتــــلــــه كــي يــعــرفــونــا أنــنا      نحن والقرآن عـــیـن الثــقلین

أبــداً صــنــوان لــن یــفــتـرقا        جدّنــا نــصّ بنــا کــالفرقدین

ضلّ أهل البـغي أبدوا کفرهم          أعــلــنــوا أحـقــاد بـدرٍ وحُنین

رفعوا القرآن في صفـّین والـ          ـیوم شالوا فوقه رأس الحسین

ربّــنــا ذو العرش أعلی شأننا        فــتــعالی رأســُــنا فی العالمین

قــطــع الله یــداً قــد قــتــلـــت        سیــّد الأبرار وابن الأکــرمیـن

 

حرّر في عاشوراء 1423 هـ في قم المقدسة

و کتب

السیّد محمد رضا الحسیني الجلالي

کان الله لهُ

 

 

چهارشنبه ۱۱ بهمن ۱۳۸۵ ساعت ۲۰:۳۲